تعرف الولايات المتّحدة الأمريكيّة - بخبرتها التّاريخيّة الحديثة - أنّ ميلاد قـوّةٍ دوليّة كبرى جديدة، وصعودَها في مراتب النّفوذ، لم يعد يأخذ في الزّمن المعاصر من الوقت ما كان يأخذه في العهد الوسيط، بل وفي مرحلةٍ من العهد الحديث امتدّت، عمليّاً، إلى نهاية القرن الثّامن عشر.
كان صعود إمبراطوريّةٍ مّا في الماضي يقتضي شوطاً مديداً من التّطـوّر تقطعه دولةٌ إلى أن يشتدّ لها العود فتستحيل قـوّةً عظمى وإمبراطوريّةً تخضع لها الممالك؛ والشّرط ذاك قد يستغرق أجيالاً (قرناً أو قرنين وربّما أكثر). هكذا كانت حالة الإمبراطوريّة الرّومانيّة، والبيزنطيّة، والعربيّة الإسلاميّة، في الماضي، وبريطانيا العظمى وفرنسا في العصر الحديث. ثمّ ما لبثت الشّروط أن تغيّرت، وخاصّةً منذ منتصف القرن التّاسع عشر.
تعرف أمريكا من تجربتها، هي نفسها كدولة حديثة الميلاد، كيف استطاعت - في بحر عقود معدودات فاصلة بين حربها الأهليّة، في ستينيّات القرن التّاسع عشر ونهاية الحرب العالميّة الأولى- أن تتحوّل إلى قوّة عظمى وأن تصير، بعد ذلك بعقدين، إلى القوّة العظمى الأولى في العالم. كما أنّها تعرف ذلك من تجربة دولتين بدأت صعودَها في لحظة صعودهما: ألمانيا واليابان. بين 1865 و1875 كانت انطلاقة هذه الدّول الثّلاث، في مضمار البناء الاقتصاديّ والصّناعيّ والعلميّ، بعد أن تحرّرت ممّا كان يكبّـل إرادتها: تحرُّر أمريكا من أعباء حربها الأهليّة (1861- 1865)؛ تحرّر اليابان من حكم الشّوغونيّة الإقطاعيّ واعتلاء الإمبراطور ميجي السّلطة (1867)؛ ثمّ تحرُّر ألمانيا من تجزئتها وبناء وحدتها القوميّة (1871) على عهد أوتو ڤون بسمارك. لكنّها تعرف ذلك، أيضاً، من تجربة روسيا التي تحوّلت، بسرعة، إلى ثاني أقوى دولة في العالم في أقـلّ من ربع قرن بعد أن تحرّرت من عهدها القيصريّ وأقامت ثورتَها ونظامها السّوڤـييتيّ في العالم (1917).
ما من شكّ في أنّ نهضةَ الولايات المتّحدة الأمريكيّة السّريعة، وصيرورتَها قـوّةً عظمى تنهلان أسبابهما من عوامل عـدّة: من سعة أراضيها وثرواتها الطّبيعيّة والمعدنيّة؛ ومن تغذيتها ديمغرافيّـتَها بهجراتٍ لقوّة العمل، ابتداءً، ثمّ للكفاءات العلميّة ثانياً؛ ومن استفادتها من العقول الألمانيّة التي هاجرت إليها هرباً من النّازيّة؛ ومن جغرافيّتها المحاطة - والمَحميّة - بالمحيطات والبعيدة عن مسارح الحروب والصّراعات الكبرى في أوروبا وآسيا. ولكنّها نهلت أسباب ذلك، أيضاً، من تدهور قوّة الإمبراطوريّات الاستعماريّة القديمة (بريطانيا، فرنسا)، وانكسار شوكة منافِساتها: ألمانيا، واليابان...، ثمّ الاتّحاد السّوڤييتيّ لاحقاً. غير أنّها ظلّت غير مطمئنّة إلى قدرتها على البقاء القوّة الأقوى في العالم بمعاينتها كيف تتّجه الصّين صعوداً في مدارج التّقدّم والقوّة بسرعةٍ جاوزت تلك التي سارت بها هي نحو التّـألّق.
تعرف أمريكا، على الحقيقة، عوامل طفرة المشروع النّهضويّ، الصّناعيّ والعلميّ، الصّينيّ: الثّروة الطّبيعيّة والبشريّة؛ وفرة الكفاءات؛ الفورة العلميّة؛ سياسة الاعتماد على الذّات وتعبئة الموارد القوميّة؛ إدارة الدّولة لعمليّة التّنميّة؛ التّوسُّع الهائل للطّبقة الوسطى؛ عدم تورّط الدّولة في المنازعات الدّوليّة والتّـفرّغ للبناء الدّاخليّ... إلخ. ومع معرفة أمريكا وإدارتها حقيقة هذه العوامل، كان يسْكُنها بعضُ الأمل في أن تظلّ، لأمدٍ أطول، القوّة العظمى الأولى في العالم؟ وآيُ ذلك أنّ رؤساءَها، بعد انهيار الاتّحاد السّوڤييتيّ، لم يتوقّفوا عن ترويج فكرة أنّ القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً أمريكيّاً. ولكن ما إنْ هلّ القرن الجديد، حتّى شرع ذلك الأمل في التّبخّر في امتداد معاينة كيف يتحرّك الصّعود الصّينيّ بإيقاعٍ خرافيّ. لا غرابة، إذن، في أن تتحوّل الصّين - في العهود الرّئاسيّة الثّلاثة الأخيرة - إلى عدوٍّ استراتيجيّ لأمريكا ينبغي تحجيمُ قُـواه.
ولكن، لأنّ واشنطن تدرك أنّ قوّة الصّين العسكريّة دون قوّتها الاقتصاديّة والعلميّة والتّكنولوجيّة وزناً (علماً أنّ حجْم الإنفاق العسكريّ الصّينيّ هو الثّاني، عالميّاً، بعد الإنفاق الأمريكيّ)، تدرك - بالتّالي - أنّ الخطر الصّينيّ على الولايات المتّحدة ودول الغرب قد يظلّ معلّقاً على بلوغ علاقات التّعاون الصّينيّ- الرّوسيّ حلقات عليا قد تفتح العلاقات على تحالف استراتيجيّ كامل. حينها، فقط، تملك الصّين - مستـقويةً بالقدرات العسكريّة الاستراتيجيّة لروسيا- أن ترفع التّحدّي إلى مستوى التّهديد الحيويّ. لذلك تسعى الإدارة الأمريكيّة، بكلّ ما وَسِعت من جهْـد، لئلاّ تصل علاقات البلدين الخصميْن لها إلى هذه العتبة العليا التي تضع مكانتها الدّوليّة أمام الامتحان المصيريّ؛ وهي ماضية - على ما نلْحظه من سياساتها تجاه المسألة الأوكرانيّة - في محاولاتها إضعاف روسيا اقتصاديّاً واستنزافها عسكريّاً من أجل إغراقها في مشكلاتها التي تشْغلها عن أيّ أولويّات أخرى. في الأثناء، تُضاعِف من استفزاز الصّين في مناطق نفوذها الإقليميّ، وخاصّةً من خلال تايوان، لإلهائها بمسائل أمنها القوميّ أكثر، وبغية قطع الطّريق على مشهد أيّ حلف استراتيجيّ قد يعرّض مكانة الولايات المتّحدة للخطر.
غير أنّ مشكلة هذه السّياسة هي سلوكُها أسلوب الإِرجاء؛ وهو إذا كان قميناً بترحيلِ واقعٍ قادم إلى زمنٍ لاحقٍ، لا يستطيع أن يغيّر كثيراً من الحقائق التي تتكوّن في جوف ذلك الواقع القادم؛ الحقائق التي ستصطدم بها الولايات المتّحدة الأمريكيّة خلال هذا العقد: على ما يقول أغلبُ التّوقّعات.
تعليق